الكلفة الإنسانية:
تسييس العمل الإغاثي بعد عقد من الصراع السوري

الكلفة الإنسانية:

تسييس العمل الإغاثي بعد عقد من الصراع السوري



“لقد فرّ نصف السوريين من ديارهم. عشرات الآلاف، وربما أكثر، اختفوا في السجون. يحتاج ثلثا سكان سوريا إلى مساعدات إنسانية، وأكثر من مليون سيموتون بدون مساعدات غذائية. الأخبار القادمة من سوريا هي في الغالب عن داعش والمناوشات من أجل السيطرة. لقد أصبحنا مخدرين بالنسبة للتكلفة الإنسانية المستمرة للصراع السوري. بهدوء، تضخ الحكومات مليارات الدولارات كل عام في الاستجابة الإنسانية في سوريا”.. بهذه الجمل وصف “جون ألترمان” مدير برنامج الشرق الأوسط بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (Csis) الوضع في سوريا بعد عشر سنوات من اندلاع الاحتجاجات. وذلك في افتتاح الندوة التي عقدها المركز في 15 مارس 2021 حول الأجندة والأوضاع الإنسانية في سوريا بعد عقد من الصراع.

أوضاع متردية

عبّر “أليكس ماهوني”، المدير المختص بالمساعدة الإنسانية لسوريا في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، أثناء مشاركته في الندوة، عن تدهور الظروف الاقتصادية والإنسانية في سوريا خاصة في ظل جائحة (كوفيد-19)، حيث فقد ما لا يقل عن 264 من عمال الإغاثة حياتهم منذ بداية الصراع. ويعاني 60% من السكان من انعدام الأمن الغذائي. وتفاقمت أسعار المواد الغذائية التي وصلت إلى مستويات 236٪ أعلى من ديسمبر 2019. كما ارتفعت مستويات سوء التغذية. بالإضافة إلى ارتفاع مستويات العنف القائم على النوع الاجتماعي، والهجمات العشوائية على البنية التحتية المدنية، والانتهاكات المباشرة لحقوق الإنسان الأساسية.

ويقدر برنامج الغذاء العالمي أن حوالي 12.4 مليون سوري يعانون الآن من انعدام الأمن الغذائي، بزيادة 4.5 ملايين في العام الماضي وحده. وبجانب العنف وأخطار المجاعة، فإن التضخم والتدهور الاقتصادي يضغطان على السوريين. ولذلك فعلى المستوى العاجل تحتاج سوريا إلى مساعدات غذائية وطبية ومساعدات الإيواء. وذلك إلى جانب الاحتياجات طويلة الأمد (مثل: السكن، وفرص العمل، والخدمات الأساسية، والمدارس المستقرة). وتعد الولايات المتحدة أكبر مانح للمساعدات الإنسانية، في سوريا والمنطقة، حيث ساهمت بأكثر من 12.2 مليار دولار منذ بداية الصراع.

ويدعو “ماهوني” إلى ضرورة تجديد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2533، الذي يخول الأمم المتحدة إيصال المساعدات إلى شمال غرب سوريا. حيث يرى أن القدرة على تطعيم السكان في شمال غرب سوريا مرهونة تمامًا بتجديد هذا القرار. كما يحث المانحين الدوليين على تركيز مواردهم على الاحتياجات المتزايدة، خاصة ما يتعلق بانعدام الأمن الغذائي.

معوقات متعددة

بالرغم من الأوضاع الإنسانية الصعبة في سوريا، وما تتطلبه من مساعدات مكثفة، فقد أشار المشاركون في الندوة إلى عدد من العقبات أمام النشاط الإنساني والإغاثي في سوريا، وتتبلور هذه العقبات فيما يلي:

1) صعوبة الوصول: وفقًا لبسمة علوش، مستشار السياسات والدعم في المجلس النرويجي للاجئين، فإن المنظمات التي ليس لديها تسجيل لدى الحكومة السورية تعتمد على العبور بشكل غير رسمي من الدول المجاورة. وفي عام 2015، أضفى قرار مجلس الأمن رقم 2254 الطابع الرسمي على هذا النوع من الوسائل للوصول إلى السوريين في المناطق التي لا تسيطر عليها الحكومة. إلا أن استعادة الحكومة السيطرةَ الميدانية بشكل واسع انعكس على تقلص مساحة المنظمات غير الحكومية، حتى إنه لم يعد هناك سوى نقطة عبور واحدة فقط من تركيا إلى شمال غرب سوريا.

وفيما لا تزال المنظّمات غير الحكومية تستخدم نقاط عبور غير رسمية للوصول إلى شمال شرق سوريا والوصول إلى مناطق أخرى أيضًا؛ فقد انسحبت العديد من المنظمات غير الحكومية من المناطق التي استعادتها الحكومة لأنها غير مسجلة، تاركة مسؤولية الإعانة على عاتق الأمم المتحدة وعدد قليل من المنظمات الدولية غير الحكومية المسجلة لدى الحكومة.

وعطفًا على ما سبق، تدعو “علوش” المنظمات غير الحكومية للعمل مع الأمم المتحدة لردع عوائق الوصول التي تفرضها جميع الأطراف، وخلق مساحة وفرص أكبر لمنظمات المجتمع المدني للوصول إلى السوريين، في جميع أنحاء سوريا، أيًا كان الطرف المسيطر على الأرض.

2) تحديات القطاع الصحي: إذ تشير “أماني قدور”، المدير الإقليمي لمنظمة سوريا للإغاثة والتنمية، إلى أن الصراع كانت له تكلفة كبيرة على القطاع الصحي السوري، حيث كانت البنية التحتية الصحية هدفًا لعديد من العمليات والهجمات العسكرية، فضلًا عن سقوط ضحايا في صفوف العاملين في مجال الرعاية الصحية، وتنامي انتهاكات حقوق الإنسان بحق العاملين في المجال الإنساني، وهي متغيرات أفضت إلى نقص في الكوادر الطبية. ناهيك عن دور الاكتظاظ والنزوح في انتشار الأمراض المعدية، مثل فيروس كورونا المستجد وشلل الأطفال والكوليرا.

3) عقبات بيروقراطية وقانونية: فقد أوضحت “ميس بلخي”، مدير برنامج الممارسات الإنسانية في “إنتر أكشن”، أن ثمة عقبات تؤثر على عمل مؤسسات الإغاثة في سوريا، فهناك العقبات القانونية المتمثلة في عملية تسجيل المنظمات غير الحكومية وتصاريح العمل والتأشيرات وأذونات الحركة. فعلى سبيل المثال، للعمل في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية، هناك حاجة إلى تسجيل رسمي قانوني في دمشق. ولإجراء عمليات عبر الحدود من تركيا، يتعين التسجيل بشكل قانوني في تركيا.

وذكرت “بلخي” أن المنظمات الإنسانية تتجنب العمل في المناطق التي توجد فيها الجماعات الإرهابية -رغم كونها أماكن ومجتمعات أكثر ضعفًا واحتياجًا– بسبب المخاوف المصرفية المتعلقة بعقوبات قوانين مكافحة الإرهاب، وخاصة ما يتعلق منها بتمويل الإرهاب. حيث لدى بعض المانحين بنود تحظر على المنظمات غير الحكومية تقديم المساعدة لأي شخص يعيش في المناطق التي تسيطر عليها التنظيمات الإرهابية.

وفي سياق متصل، أشار “جاكوب كيرتزر”، مدير الأجندة الإنسانية بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إلى أن القضايا المتعلقة بالتخلص من المخاطر والعمل في المناطق التي توجد بها مجموعات مصنفة على أنها إرهابية تمثل تحديًا لمدة تتراوح بين 15 و20 عامًا. وهو ما دفع الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، على سبيل المثال، إلى إلغاء التصنيف الإرهابي لجماعة أنصار الله الحوثي، وهو أمر كان وثيق الصلة بالجهود الإنسانية في اليمن.

4) المخصصات المالية: وهو واحد من الإشكاليات الرئيسية بالنسبة للعمل الإنساني في سوريا، وبحسب “أماني قدور” فإن المعوقات البيروقراطية تؤخر تحويل المخصصات المالية إلى عمال الإغاثة، وهو ما يعني انقطاع الشكل الوحيد لكسب الزرق بالنسبة لهم، وتأخر تمويل الخدمات الحيوية والقطاع الصحي، بل وانقطاعها لأشهر. وعليه، تدعو قدور إلى تنسيق أكبر بين المانحين والشركاء الدوليين وأصحاب المصلحة، والعمل على إزالة هذه العوائق.

توصيات ختامية

خلُص المشاركون في الندوة إلى عددٍ من التوصيات الرئيسية، فمن جهة أولى أكدوا على أهمية التسوية السياسية، لأن المساعدات لا تكفي وحدها لحل الأزمة، وهناك حاجة إلى مواصلة العمل من أجل تسوية سياسية تعالج العوامل التي تدفع إلى العنف. فقد كشفت سنوات الصراع عن عدم كفاية الوضع الإغاثي الراهن، إذ لا يعتبر الصراع السوري مجرد أزمة إنسانية يُسهم الدعم الإنساني في حلها، وإنما يحتاج إلى إرادة سياسية واستثمار جاد في معالجة الأسباب الجذرية للصراع السوري لمنع عقد آخر من عدم الاستقرار وانعدام الأمن والمزيد من النزوح. وعليه، دعا المشاركون إلى تجديد الجهود الدبلوماسية الدولية من أجل الوصول إلى حل سياسي جاد.

ومن جهة ثانية، تم التأكيد على أهمية إشراك المنظمات غير الحكومية في عملية صنع القرار، إذ دعت “ميس بلخي” إلى استشارة المنظمات غير الحكومية وإشراكها في عملية إصدار التشريعات والقوانين من أجل ضمان المبادئ الإنسانية. وقالت إنه يجب على الحكومة الأمريكية دمج الضمانات الإنسانية، بما في ذلك تراخيص مكتب مراقبة الأصول الأجنبية، في سياسات العقوبات بتوجيه واضح.ومن جهة ثالثة، طرح المشاركون فكرة استقلالية المنظمات الإنسانية كعنصر هام في السياق السوري. وفي هذا الإطار، أكدت “بسمة علوش” على أهمية استقلالية وحياد المنظمات الإنسانية في ظل السياق المسيس والمثير الجدل، وأكدت على أهمية إنسانية الاستجابات بعيدًا عن أي حسابات سياسية. وذكرت أن احتياجات الخدمات التي دفعت السوريين للاحتجاج عام 2011 لا تزال مستمرة بعد عقد من الصراع، وهو ما يجب العمل على عدم تفاقمه.


الكلمات المفتاحية: